سورة الملك - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الملك)


        


{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
أما قوله: {تبارك} فقد فسرناه في أول سورة الفرقان، وأما قوله: {بِيَدِهِ الملك} فاعلم أن هذه اللفظة إنما تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً، كما يقال: بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد ولا مدخل للجارحة في ذلك.
قال صاحب الكشاف: {بِيَدِهِ الملك} على كل موجود، {وَهُوَ على كُلّ} ما لم يوجد من الممكنات {قَدِيرٌ}، وقوله: {وَهُوَ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ} فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية احتج بها من زعم أن المعدوم شيء، فقال قوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيء قَدِيرٌ} يقتضي كون مقدوره شيئاً، فذلك الشيء الذي هو مقدور الله تعالى، إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، لا جائز أن يكون موجوداً، لأنه لو كان قادراً على الموجود، لكان إما أن يكون قادراً على إيجاده وهو محال، لأن إيجاد الموجود محال، وإما أن يكون قادراً على إعدامه وهو محال، لاستحالة وقوع الإعدام بالفاعل، وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة فلابد لها من تأثير، والعدم نفي محض، فيستحيل جعل العدم أثر القدرة، فيستحيل وقوع الإعدام بالفاعل فثبت أن الشيء الذي هو مقدور الله ليس بموجود، فوجب أن يكون معدوماً، فلزم أن يكون ذلك المعدوم شيئاً، واحتج أصحابنا النافون لكون المعدوم شيئاً بهذه الآية فقالوا: لا شك أن الجوهر من حيث إنه جوهر شيء والسواد من حيث هو سواد شيء، والله قادر على كل شيء. فبمقتضى هذه الآية يلزم أن يكون قادراً على الجوهر من حيث إنه جوهر، وعلى السواد من حيث هو سواد، وإذا كان كذلك كان كون الجوهر جوهراً، والسواد سواداً واقعاً بالفاعل، والفاعل المختار لابد وأن يكون متقدماً على فعله، فإذاً وجود الله وذاته متقدم على كون الجوهر جوهراً، أو السواد سواداً، فيلزم أن لا يكون المعدوم شيئاً وهو المطلوب، ثم أجابوا عن شبهة الخصم بأنا لا نسلم أن الإعدام لا يقع بالفاعل، ولئن سلمنا ذلك، لكن لم يجوز أن يقال المقدور الذي هو معدوم سمي شيئاً، لأجل أنه سيصير شيئاً، وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه، لقيام سائر الدلائل الدالة على أن المعدوم ليس بشيء.
المسألة الثانية: زعم القاضي أبو بكر في أحد قوليه أن إعدام الأجسام إنما يقع بالفاعل، وهذا اختيار أبي الحسن الخياط من المعتزلة، ومحمود الخوارزمي، وزعم الجمهور منا ومن المعتزلة أنه يستحيل وقوع الإعدام بالفاعل، احتج القاضي بأن الموجودات أشياء، والله على كل شيء قدير، فهو إذاً قادر على الموجودات، فإما أن يكون قادراً على إيجادها وهو محال لأن إيجاد الموجود محال، أو على إعدامها، وذلك يقتضي إمكان وقوع الإعدام بالفاعل.
المسألة الثالثة: زعم الكعبي أنه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد، وزعم أبو علي وأبو هاشم أنه تعالى غير قادر على مقدور العبد، وقال أصحابنا: إنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد وعلى غير مقدوره، واحتجوا عليه بأن عين مقدور العبد ومثل مقدوره شيء، والله على كل شيء قدير، فثبت بهذا صحة وجود مقدور واحد بين قادرين.
المسألة الرابعة: زعم أصحابنا أنه لا مؤثر إلا قدرة الله تعالى، وأبطلوا القول بالطبائع على ما يقوله الفلاسفة، وأبطلوا القول بالمتولدات على ما يقوله المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه، واحتجوا على الكل بأن الآية دالة على أنه تعالى قادر على كل شيء، فلو وقع شيء من الممكنات لا بقدرة الله بل بشيء آخر، لكان ذلك الآخر قد منع قدرة الله عن التأثير فيما كان مقدوراً له وذلك محال، لأن ما سوى الله ممكن محدث، فيكون أضعف قوة من قدرة الله، والأضعف لا يمكن أن يدفع الأقوى.
المسألة الخامسة: هذه الآية دالة على أن الإله تعالى واحد، لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً، فإما أن يقدر على إيجاد شيء أو لا يقدر، فإن لم يقدر ألبتة على إيجاد شيء أصلاً لم يكن إلهاً، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً، فيلزم كونه مقدوراً للإله الأول لقوله: {وَهُوَ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ} فيلزم وقوع مخلوق بين خالقين وهو محال، لأنه إذا كان واحد منهما مستقلاً بالإيجاد، يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما، وغنياً عنهما، وذلك محال.
المسألة السادسة: احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء فقال: لو كان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله: {وَهُوَ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ} لكن كونه قادراً على نفسه محال، فيمتنع كونه شيئاً، وقال أصحابنا لما دل قوله: {قُلْ أَىُّ شَيء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] على أنه تعالى شيء وجب تخصيص هذا العموم، فإذاً هذه الآية قد دلت على أن العام المخصوص وارد في كتاب الله تعالى، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز بل واقع.
المسألة السابعة: زعم جمهور المعتزلة أن الله تعالى قادر على خلق الكذب والجهل والعبث والظلم، وزعم النظام أنه غير قادر عليه، واحتج الجمهور بأن الجهل والكذب أشياء {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فوجب كونه تعالى قادراً عليها.
المسألة الثامنة: احتج أهل التوحيد على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة، فإنه تعالى لو حصل في حيز دون حيز لكان ذلك الحيز الذي حكم بحصوله فيه متميزاً عن الحيز الذي حكم بأنه غير حاصل فيه، إذ لو لم يتميز أحد الحيزين عن الآخر لاستحال الحكم بأنه تعالى حصل فيه ولم يحصل في الآخر ثم إن امتياز أحد الحيزين عن الآخر في نفسه يقتضي كون الحيز أمراً موجوداً لأن العدم المحض يمتنع أن يكون مشاراً إليه بالحس وأن يكون بعضه متميزاً عن البعض في الحس، وأن يكون مقصداً للمتحرك، فإذن لو كان الله تعالى حاصلاً في حيز لكان ذلك الحيز موجوداً، ولو كان ذلك الحيز موجوداً لكان شيئاً ولكان مقدور الله لقوله تعالى: {وَهُوَ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ} وإذا كان تحقق ذلك الحيز بقدرة الله وبإيجاده، فيلزم أن يكون الله متقدماً في الوجود على تحقق ذلك الحيز، ومتى كان كذلك كان وجود الله في الأزل محققاً من غير حيز وله جهة أصلاً والأزلي لا يزول ألبتة، فثبت أنه تعالى منزه عن الحيز والمكان أزلاً وأبداً.
المسألة التاسعة: أنه تعالى قال أولاً: {بِيَدِهِ الملك} ثم قال بعده: {وَهُوَ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ} وهذا مشعر بأنه إنما يكون بيده الملك لو ثبت أنه على كل شيء قدير، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه لو وقع مراد العبد ولا يقع مراد الله، لكان ذلك مشعراً بالعجز والضعف، وبأن لا يكون مالك الملك على الإطلاق، فدل ذلك، على أنه لما كان مالك الملك وجب أن يكون قادراً على جميع الأشياء.
المسألة العاشرة: القدير مبالغة في القادر، فلما كان قديراً على كل الأشياء وجب أن لا يمنعه ألبتة مانع عن إيجاد شيء من مقدوراته، وهذا يقتضي أن لا يجب لأحد عليه شيء وإلا لكان ذلك الوجوب مانعاً له من الترك وأن لا يقبح منه شيء وإلا لكان ذلك القبح مانعاً له من الفعل، فلا يكون كاملاً في القدرة، فلا يكون قديراً، والله أعلم.


{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)}
قوله تعالى: {الذى خَلَقَ الموت والحياة} فيه مسائل:
المسألة الأولى: قالوا: الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت، فقال قوم: إنه عبارة عن عدم هذه الصفة وقال أصحابنا: إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجوا على قولهم بأنه تعالى قال: {الذى خَلَقَ الموت} والعدم لا يكون مخلوقاً هذا هو التحقيق، وروى الكلبي بإسناده عن ابن عباس أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فارس يلقاه فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء ولا يجد ريحتها شيء إلا حيي.
واعلم أن هذا لابد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل والتصوير، وإلا فالتحقيق هو الذي ذكرناه.
المسألة الثانية: إنما قدم ذكر الموت على ذكر الحياة مع أن الحياة مقدمة على الموت لوجوه:
أحدها: قال مقاتل: يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة والحياة نفخ الروح.
وثانيها: روى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان.
وثالثها: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن منادياً ينادي يوم القيامة يا أهل الجنة، فيعلمون أنه من قبل الله عز وجل فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا: نعم، ثم يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح ثم ينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزن».
واعلم أنا بينا أن الموت عرض من الأعراض كالسكون والحركة فلا يجوز أن يصير كبشاً بل المراد منه التمثيل ليعلم أن في ذلك اليوم قد انقضى أمر الموت، فظهر بما ذكرناه أن أيام الموت هي أيام الدنيا وهي منقضية، وأما أيام الآخرة فهي أيام الحياة وهي متأخرة فلما كانت أيام الموت متقدمة على أيام الحياة لا جرم قدم الله ذكر الموت على ذكر الحياة.
ورابعها إنما قدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض له أهم.
المسألة الثالثة: اعلم أن الحياة هي الأصل في النعم ولولاها لم يتنعم أحد في الدنيا وهي الأصل أيضاً في نعم الآخرة ولولاها لم يثبت الثواب الدائم، والموت أيضاً نعمة على ما شرحنا الحال فيه في مواضع من هذا الكتاب، وكيف لا وهو الفاصل بين حال التكليف وحال المجازاة وهو نعمة من هذا الوجه، قال عليه الصلاة والسلام: «أكثروا من ذكر هازم اللذات» وقال لقوم: «لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى» وسأل عليه الصلاة والسلام عن رجل فأثنوا عليه، فقال: «كيف ذكره الموت؟ قالوا قليل، قال فليس كما تقولون».
قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العزيز الغفور} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق من وجب أن يكون عالماً بجميع المعلومات أزلاً وأبداً محال، إلا أنا قد حققنا هذه المسألة في تأويل قوله: {وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات} [البقرة: 124] والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه (الابتلاء) على المختبر.
المسألة الثانية: احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} قالوا: هذه اللام للغرض ونظيره قوله تعالى: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وجوابه أن الفعل في نفسه ليس بابتلاء إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي مجازاً، فكذا هاهنا، فإنه يشبه الغرض وإن لم يكن في نفسه غرضاً، فذكر فيه حرف الغرض.
المسألة الثالثة: اعلم أنا فسرنا الموت والحياة بالموت حال كونه نطفة وعلقة ومضغة، والحياة بعد ذلك فوجه الابتلاء على هذا الوجه أن يعلم أنه تعالى هو الذي نقله من الموت إلى الحياة وكما فعل ذلك فلابد وأن يكون قادراً على أن ينقله من الحياة إلى الموت فيحذر مجيء الموت الذي به ينقطع استدراك ما فات ويستوي فيه الفقير والغني والمولى والعبد، وأما إن فسرناهما بالموت في الدنيا وبالحياة في القيامة فالابتلاء فيهما أتم لأن الخوف من الموت في الدنيا حاصل وأشد منه الخوف من تبعات الحياة في القيامة، والمراد من الابتلاء أنه هل ينزجر عن القبائح بسبب هذا الخوف أم لا.
المسألة الرابعة: في تعلق قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} بقوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وجهان:
الأول: وهو قول الفراء والزجاج: إن المتعلق بأيكم مضمر والتقدير ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملاً والثاني: قال صاحب الكشاف: {لِيَبْلُوَكُمْ} في معنى ليعلمكم والتقدير ليعلمكم أيكم أحسن عملاً.
المسألة الخامسة: ارتفعت (أي) بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنها على أصل الاستفهام فإنك إذا قلت: لا أعلم أيكم أفضل كان المعنى لا أعلم أزيد أفضل أم عمرو، واعلم أن مالا يعمل فيما بعد الألف فكذلك لا يعمل في (أي) لأن المعنى واحد، ونظير هذه الآية قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُم بذلك زَعِيمٌ} [القلم: 40] وقد تقدم الكلام فيه.
المسألة السادسة: ذكروا في تفسير {أَحْسَنُ عَمَلاً} وجوهاً: أحدها: أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها لأن العمل إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل، وكذلك إذا كان صواباً غير خالص فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة.
وثانيها: قال قتادة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يقول أيكم أحسن عقلاً» ثم قال: «أتمكم عقلاً أشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً»، وإنما جاز أن يفسر حسن العمل بتمام العقل لأنه يترتب على العقل، فمن كان أتم عقلاً كان أحسن عملاً على ما ذكر في حديث قتادة.
وثالثها: روي عن الحسن أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركاً لها، واعلم أنه لما ذكر حديث الابتلاء قال بعده: {وَهُوَ العزيز الغفور} أي وهو العزيز الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل، الغفور لمن تاب من أهل الإساءة.
واعلم أن كونه عزيزاً غفوراً لا يتم إلا بعد كونه قادراً على كل المقدورات عالماً بكل المعلومات أما أنه لابد من القدرة التامة، فلأجل أن يتمكن من إيصال جزاء كل أحد بتمامه إليه سواء كان عقاباً أو ثواباً، وأما أنه لابد من العلم التام فلأجل أن يعلم أن المطيع من هو والعاصي من هو فلا يقع الخطأ في إيصال الحق إلى مستحقه، فثبت أن كونه عزيزاً غفوراً لا يمكن ثبوتها إلا بعد ثبوت القدرة التامة والعلم التام، فلهذا السبب ذكر الله الدليل على ثبوت هاتين الصفتين في هذا المقام، ولما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً، لا جرم ذكر أولاً دلائل القدرة وثانياً دلائل العلم.


{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)}
أما دليل القدرة فهو قوله: {الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات طِبَاقاً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكر صاحب الكشاف في {طِبَاقاً} ثلاثة أوجه أولها: طباقاً أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق، وهذا وصف بالمصدر.
وثانيها: أن يكون التقدير ذات طباق.
وثالثها: أن يكون التقدير طوبقت طباقاً.
المسألة الثانية: دلالة هذه السموات على القدرة من وجوه:
أحدها: من حيث إنها بقيت في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة.
وثانيها: من حيث إن كل واحد منها اختص بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص.
وثالثها: أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معينة.
ورابعها: كونها في ذواتها محدثة وكل ذلك يدل على استنادها إلى قادر تام القدرة.
وأما دليل العلم فهو قوله: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي {مِن تَفَوت} والباقون {مِن تَفَاوُتٍ}، قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة مثل تظهر وتظاهر، وتعهد وتعاهد، وقال الأخفش: {تفاوت} أجود لأنهم يقولون: تفاوت الأمر ولا يكادون يقولون: تفوت، واختار أبو عبيدة: {تَفَوت}، وقال: يقال تفوت الشيء إذا فات، واحتج بما روي في الحديث أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله.
المسألة الثانية: حقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضه ولا يلائمه ومنه قولهم: (تعلق متعلق متفاوت ونقيضه متناسب)، وأما ألفاظ المفسرين فقال السدي: من تفاوت أي من اختلاف عيب، يقول الناظر: لو كان كذا كان أحسن، وقال آخرون: التفاوت الفطور بدليل قوله بعد ذلك: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} نظيره قوله: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] قال القفال: ويحتمل أن يكون المعنى: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكمة صانعها وأنه لم يخلقها عبثاً.
المسألة الثالثة: الخطاب في قوله: {مَّا ترى} إما للرسول أو لكل مخاطب وكذا القول في قوله: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا}.
المسألة الرابعة: قوله: {طِبَاقاً} صفة للسموات، وقوله بعد ذلك: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} صفة أخرى للسموات والتقدير خلق سبع سموات طباقاً ما ترى فيهن من تفاوت إلا أنه وضع مكان الضمير قوله: {خَلْقِ الرحمن} تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب.
المسألة الخامسة: اعلم أن وجه الاستدلال بهذا على كمال علم الله تعالى هو أن الحس دل أن هذه السموات السبع، أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان، وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فإنه لابد وأن يكون عالماً، فدل هذه الدلالة على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
المسألة السادسة: احتج الكعبي بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله تعالى، قال: لأنه تعالى نفى التفاوت في خلقه، وليس المراد نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص والعيب فوجب حمله على نفي التفاوت في خلقه من حيث الحكمة، فيدل من هذا الوجه على أن أفعال العباد ليست من خلقه على ما فيها من التفاوت الذي بعضه جهل وبعضه كذب وبعضه سفه، الجواب: بل نحن نحمله على أنه لا تفوت فيه بالنسبة إليه، من حيث إن الكل يصح منه بحسب القدرة والإرادة والداعية، وإنه لا يقبح منه شيء أصلاً، فلم كان حمل الآية على التفاوت من الوجه الذي ذكرتم أولى من حملها على نفي التفاوت من الوجه الذي ذكرناه، ثم إنه تعالى أكد بيان كونها محكمة متقنة، وقال: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} والمعنى أنه لما قال: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} كأنه قال بعده: ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك بالبصر الواحد، ولا تعتمد عليه بسبب أنه قد يقع الغلط في النظرة الواحدة، ولكن ارجع البصر واردد النظرة مرة أخرى، حتى تتيقن أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتة. والفطور جمع فطر، وهو الشق يقال: فطره فانفطر ومنه فطر ناب البعير، كما يقال: شق ومعناه شق اللحم فطلع، قال المفسرون: {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} أي من فروج وصدوع وشقوق، وفتوق، وخروق، كل هذا ألفاظهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8